أوغندا بالعربي- نقلا عن صحيفة مداميك
يشهد السودان حاليًا أسوأ أزمة إنسانية في العالم. فمع دخول الحرب عامها الثالث، بات أكثر من 30 مليون شخص، من بينهم 16 مليون طفل، بحاجة ماسة إلى مساعدات منقذة للحياة. ويهدد انعدام الأمن الغذائي حياة أكثر من 24.6 مليون شخص، مع تأكيد المجاعة بمعناها الفني المتعارف عليه لدى المنظمات الدولية في عدة مناطق، مثل معسكرات زمزم وأبو شوك والسلام للنازحين في شمال دارفور، وأجزاء من جبال النوبة. وقد تمخضت الحرب عن أكبر أزمة نزوح في العالم، إذ أُجبر أكثر من 13 مليون شخص على الفرار من منازلهم ومدنهم وقراهم. من بين هؤلاء، هناك 11.5 مليون نازح داخلي وأكثر من 2 مليون لاجئ عبروا حدود الوطن. ويُعد عدد الأطفال النازحين في السودان، والبالغ 7 ملايين، الأكبر في العالم. انهارت الخدمات الصحية بشكل مروّع، حيث أصبحت 80% من المرافق الصحية في المناطق المتأثرة بالنزاع خارج الخدمة. وتنتشر أمراض مثل الكوليرا، والملاريا، والحصبة، وحمى الضنك، والحصبة الألمانية، دون علاجات كافية. كما أن معدلات سوء التغذية بين الكبار والصغار في ارتفاع مستمر. فعلى سبيل المثال، تم علاج أكثر من 431,000 طفل من سوء التغذية الحاد الوخيم في عام 2024، بزيادة بلغت 43.8% عن العام السابق. لكن بسبب القيود المفروضة على التنقل والوصول إلى المتأثرين، لم يتم التعرف على عدد كبير من الأطفال المصابين بسوء التغذية ولم تصلهم أي خدمات منقذة للحياة. ومن الصعب جدًا حصر أعداد الأرواح التي أُزهقت في هذه الحرب، ويُقدَّر بأن نحو 150 ألف شخص قد قُتلوا، وهو رقم قد لا يعكس الواقع المرير. ولا ننسى عدد من أُصيبوا بإعاقات جسدية أو بأمراض نفسية وعصبية، والنساء اللاتي تعرضن لانتهاكات جنسية وما تبعها من حالات انتحار أو حمل غير مرغوب فيه. ناهيك عن وجود 19 مليون طفل خارج المدرسة، إضافة إلى آلاف من الطلاب الجامعيين الذين تعطلت دراستهم، ما يهدد مستقبل رأس المال البشري في السودان. لقد دمرت الحرب البنية التحتية الحيوية، حيث طالت الدمار محطات توليد الكهرباء وتكرير وضخ المياه، ومستودعات الوقود، والمطارات، والمصانع، ووحدات الإنتاج الحيواني والزراعي، ومنشآت مدنية استراتيجية أخرى. أما الخسائر في الممتلكات الخاصة من منازل ومقتنيات وسيارات، فإن حصرها في ظل نزوح الملايين يظل أمرًا بالغ الصعوبة. كل هذا الدمار له أثر سلبي على توفر الغذاء والخدمات، وعلى المستوى المعيشي للمواطن، آنيًا وعلى المدى البعيد.
أزمة مخفية عن الأنظار:
رغم حجمها الهائل، لا تزال أزمة السودان غائبة إلى حد كبير عن التغطية الإعلامية العالمية، لأسباب متعددة، منها: قيود الوصول: تمنع أطراف القتال الصحفيين من الوصول بحرية إلى مناطق النزوح، مما يجعل التغطية الميدانية صعبة. وأتساءل: كيف يتمكن الإعلام العالمي من دخول غزة وسط أمطار القنابل والصواريخ، بينما يُغيَّب حتى عن معسكرات النازحين في السودان؟ انقطاع الاتصالات: تستمر انقطاعات الإنترنت وشبكات الاتصال والكهرباء، مما يحجب التحديثات الفورية ويكتم أصوات المدنيين. أزمات عالمية منافسة: تهيمن النزاعات في أوكرانيا وغزة، وغيرها مثل الصراع بين الهند وباكستان، على العناوين، مما يُبعد السودان عن دائرة الاهتمام. ضعف الوعي العام: في دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، الوعي العام بأزمة السودان منخفض بشكل مقلق. وقد يعود ذلك إلى ضعف التغطية الإعلامية، وكذلك إلى التركيز على العمليات العسكرية بين أطراف الصراع، مع إغفال الجانب الإنساني في المواد الإعلامية القليلة المتاحة. ساهم هذا التعتيم الإعلامي في تفشي حالة من اللامبالاة العالمية، ما أدى إلى فتور الإرادة السياسية وتراجع التمويل الإنساني. استجابة دولية وإقليمية غير كافية: جاءت استجابة المجتمع الدولي دون الحد الأدنى المطلوب لمواكبة الاحتياجات الإنسانية المتفاقمة. وفيما يلي بعض التحديات: نقص حاد في التمويل: يتطلب نداء السودان الإنساني لعام 2025 مبلغ 4.2 مليار دولار، ولم يُموّل منه سوى 13% حتى منتصف مايو 2025. كما أن نداء اليونيسف الإنساني لعام 2024 تم تمويله بنسبة 58% فقط، في حين حصل برنامج الأغذية العالمي على أقل من 20% من احتياجاته للأشهر الخمسة الأولى من عام 2025 (والتي تبلغ 614 مليون دولار).
إرهاق المانحين:
خفضت دول رئيسية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ميزانيات المساعدات، نتيجة لضغوط داخلية، وذلك في وقت تتصاعد فيه حدة الأزمة في السودان. تراخي القوى الإقليمية: رغم اعتراف الاتحاد الإفريقي بخطورة الأزمة، إلا أن التدخلات العملية لا تزال محدودة للغاية. إهمال الجهود المحلية: تعمل تنظيمات مجتمعية سودانية، مثل غرف الطوارئ، وجمعيات، و”تكايا”، و”مطابخ مجتمعية” يديرها أفراد متطوعون، على دعم أكثر من 11.5 مليون شخص، بحسب تقارير. ومع ذلك، فإن دعم المنظمات الدولية لهذه المبادرات المحلية، رغم شرعيتها وفعاليتها، يظل ضعيفًا. كما يتحمّل السودانيون في الخارج عبئًا كبيرًا في تمويل هذه الجهود. تصاعد الهجمات على البنية التحتية المدنية: مؤخرًا، صعّدت قوات الدعم السريع من هجماتها بالطائرات المسيّرة، مستهدفة منشآت مدنية حيوية: منشآت الطاقة: استُهدفت محطات توليد الكهرباء الرئيسية، بما في ذلك سد مروي، ومرافق في القضارف وعطبرة، مما أدى إلى انقطاعات واسعة للكهرباء وتعطيل الخدمات الأساسية. مخازن الوقود: ألحقت الهجمات على مستودعات الوقود في بورتسودان ودنقلا أضرارًا بالغة، وأدت إلى نقص حاد في الوقود، ما أثر على النقل والعمليات الإنسانية. مدينة بورتسودان: والتي كانت تُعد ملاذًا آمنًا ومركزًا لوجستيًا، أصبحت الآن هدفًا لهجمات متكررة طالت المطار والميناء ومستودعات الوقود، مما أضرّ بإيصال المساعدات الإنسانية. تُعد هذه الهجمات انتهاكًا صارخًا للقانون الإنساني الدولي، وتُفاقم معاناة المدنيين عبر شلّ البنية التحتية الحيوية.
دعوة عاجلة للتحرك:
ما يمر به السودان حاليًا ليس مجرد حالة إنسانية طارئة؛ بل هو فشل أخلاقي وسياسي. ويجب على المجتمع الدولي أن يتحرك الآن من أجل: رفع التغطية الإعلامية: على الإعلام العالمي تسليط الضوء على معاناة الشعب السوداني. تمويل الاستجابة الإنسانية بالكامل: يجب على المانحين تلبية نداء المساعدات البالغ 4.2 مليار دولار، وإعطاء السودان أولوية في التمويل. ضمان الوصول الإنساني: يجب على جميع الأطراف تسهيل وصول العاملين الإنسانيين والإمدادات دون عوائق. دعم المستجيبين المحليين: يجب الاستثمار في الشركاء السودانيين والمنظمات المجتمعية وتعزيز قدراتهم. الدعوة لوقف إطلاق النار والمساءلة: يجب الضغط لوقف فوري لإطلاق النار، مع محاسبة مرتكبي الجرائم والانتهاكات. الخاتمة: يعيش ملايين السودانيين في كابوس من المجاعة، والنزوح، والعنف، فيما يفاقم صمت العالم هذه المأساة. لقد آن الأوان لأن ينهض القادة المؤثرون، ووسائل الإعلام، وصنّاع القرار بمسؤولياتهم الأخلاقية لإيصال صوت السودان، واستعادة حضوره في الوعي العالمي، وتحفيز الجهود اللازمة لإنقاذ الأرواح. ويتطلب ذلك أيضًا قيام الجهات المختصة داخل السودان بدورها في تسهيل حصول مؤسسات الإعلام العالمية والإقليمية على المادة الإعلامية، وفقًا لمعايير الإعلام الحر والمسؤول. إن تجاهل السودان الآن يعني التخلي عن أمة بأكملها لموت في الظلام. يجب أن نكسر هذا الصمت قبل أن نصبح شركاء في الجريمة.
د. محمد المنير أحمد صفي الدين msafieldin@gmail.com